ماهية العروبة في فكر وشعر أحمد سحنون
العروبة في اللغة :
مادة (ع,ر,ب) لها ثلاثة أصول من حيث المعنى تدور في فلكها ولا تخرج عنها إلاّ على جهة الاستعارة والمجاز الأوّل : الإبانة والإفصاح , ومنه ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "الثيّبُ يعربُ عنها لسانُها..."
الثاني : النشاط وطيب النفس , كقولهم المرأة العروب الضاحكة الطيبة النفس ومنه قوله تعالى {فجعلناهن أبكارا , عربا أترابا} (الواقعة 36ـ37) قال أهل التفسير هنّ المتحبّبات إلى أزواجهن
الثالث : فسادٌ في جسمٍ أو عضو ومنه قولهم عَرِبتْ معدته إذا فسدت وامرأة عروبٌ أي فاسدة
وموضوعنا إنّما هو متعلق بالأصل الأوّل ومنه كلمة (عَرَبْ) اسم مؤنث لجنس من الناس وغيرهم عجم قيل سموا بذلك لأنّ لسانهم أبين وأفصح الألسن وقيل نسبة إلى أرضهم التي تسمى (العَرَبات) أو لأنّ أرضهم قاحلة لا ماء فيها فسموا عربا تفاؤلا بوجود الماء وكثرته لأنّ العُربُ هو كثرة الماء وهو النهر شديد الجُرْيَةِ تماما كما سموا الملدوغ سليما وقيل بل نسبة إلى يعرب بن قحطان أوّل من ملك اليمن ومنه قول الشاعر :
نحن أبناء يعربٍ أعربُ النّاس لساناً وأنضرُ النّاسِ عوداً
وقالوا الرجل العربي الثابت النسب فيهم حتى وإن لم يكن فصيحا والذي أعرب من الناس هو الفصيح وإن لم يكن من جنس العرب
وأعربت عن الشيء وأعربته وعرّبته كلّها بمعنى واحد هو التبيين والإيضاح ...
والخلاصة أنّ كلمة (عرب) اسم اختصّ بجنس من الناس يجمعهم إمّا نسب واحد هو قحطان للعاربة وذرّيّة إسماعيل عليه السلام للمستعربة أو أرض واحدة هي جزيرة العرب أو لسان واحد هو اللسان العربي المبين
والعروبة على وزن فُعُولة صيغة مبالغة يؤتى بها للتدليل على كثرة اتّصاف الموصوف بالصفة والمقصود بها ها هنا خلوص في الانتماء العربي من جهة الأرض أو الجنس أو اللغة
العروبة في الاصطلاح :
فالعروبة إذاً هي الاسم الصفة لما هو عربي يراد به خصائص هذا الجنس ومزاياه
وإذا كان هذا الاصطلاح قديما لم يخرج عن أصل معناه اللغوي فهو متعلق باللسان العربي أو بالجنس والعرق الإنساني الذي يسكن الجزيرة العربية وليس له بعد عقائدي محدّد أو حضاري متميّز فإنّه اليوم ـ على خلاف ذلك ـ في استعمال الكثيرين مصطلحا عقائديا يقابلون ويجابهون به الإسلام ويزعمون أنّ العروبة أوسع من الإسلام فهي تجمع بين المسلمين وغيرهم من مسيحيين ويهود ووثنيين ولا دينيين وأنّ الانتساب إلى الإسلام من شأنه أن يستعدي علينا غير المسلمين لأنّه دين قائم على رفض الآخر فهو يرى أنّ القوامة والحكم في الدنيا والنصر والفلاح في الآخرة لا يكون إلاّ للمسلمين ...
ويرى آخرون أنّ العربيةَ لسانٌ وأنّ العروبة إنّما هي انتساب لهذا اللسان لا غير ...ويستدلون بنحو ما ينسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: " يا أيها الناس إن الرب واحد ، و الأب واحد ، و ليست العربية بأحدكم من أب ولا أم ، و إنما هي اللسان ، فمن تكلم بالعربية فهو عربي ."
ويرى البعض أنّ العروبة متعلقة بالمنطقة الجغرافية التي ما فتئ النسّابون والمؤرخون والجغرافيون يسمونها بأرض العرب وديارهم وجزيرتهم وبلادهم ...فإن هم غادروها وهاجروا منها إلى غيرها سموهم بغير العرب كالكنعانيين والفنيقيين والأنباط والأمازيغ ...
ويعقد آخرون العلاقة بين العروبة والإسلام انطلاقا من العلاقة بين اللغة والدين فيعتبرون العروبة شعارا إسلاميا و اللغة العربية نفسها من الدين...وممّا قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا المعنى : " اللسان العربيّ شعارُ الإسلام وأهله , واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميّزون"[1] وقال أيضا :"فإنّ نفس اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب..."[2]
ولكلّ فريق احتجاجاته وردوده الكثيرة والتي تحتاج إلى بحث مستقلّ يستوفيها ويعطيها حقّها من الدراسة والبيان وما يهمّنا ها هنا هو محاولة البحث في معنى العروبة وفي معانيها و مفاهيمها المختلفة وتحديد موقع الشيخ أحمد سحنون منها
العروبة بين المشرق والمغرب :
إذا تقرّر أنّ العروبة اليوم غير العروبة في عصورها المتقدمة والمختلفة وأنّ هذا المصطلح لا يزال يتطوّر ويتغيّر بتغيّر الزمن أوّلا وبتغيّر نظرة المعرِّف للعرب والعربية وعلاقتهما بالعقيدة ثانيا... فإنّ هذا من شأنه أن يؤكّد لنا "ان العروبة هوية تأخذ أبعادها ومضامينها من الحضور التاريخي لأهلها " والمقصود بالحضور التاريخي حضورهم السياسي الثقافي والحضاري...وإنّ هذا التواجد والحضور قد اختلف بين المشرق العربي ومغربه اختلافا بيّنا ظاهرا نتج عنه اختلاف في تعريف العروبة ومفهومها ونظرة كلّ فريق لها...
فإذا كان المشرق العربي قد فرّق بين العروبة والإسلام لأسباب كثيرة منها ما هو عرقيّ ومنها ما هو عقائدي ومنها ما هو تاريخي... لعلّ أهمّها وجود أقليات عربية لا تدين بالإسلام , النشاطات القومية التي قادها النصارى العرب , الحروب الصليبية ومواقف نصارى العرب منها , اهتمام الدعوات الإصلاحية الأولى في المشرق العربي بالجانب القومي (الأفغاني ومحمد عبده ) ...
فإنّ المغرب العربي وانطلاقا من نفس الأبعاد يرى خلاف ذلك فإنّ العروبة ها هنا ملازمة للإسلام مرتبطة به لا تكاد تسمع إحداهما إلاّ مقترنة بالأخرى...وكثيرا ما تطلق العروبة ويقصد بها الإسلام أو يطلق الإسلام ويقصد به العروبة
وممّا قاله الأستاذ صالح خرفي مبيّنا حقيقة العروبة في بلاد المغرب العربي وعلاقتها بباقي ثوابتها: "عروبة المغرب العربي عروبة أصلية خالدة , لأنّ الإسلام كان ولم يزل المدخل التاريخي لها , أصّلها بقوة الروح وخلّدها بصلابة العقيدة , ظلّل أرضيتها بالدستور السماوي وربط مقومها الأساسي بلسان عربي مبين ..."[3]
وقول الإمام عبد الحميد بن باديس في إحدى قصائده :
أشعبُ الجزائري روحي الفِدا لما فيك من عزّةٍ عربيّة
بنيت على الدين أركانها فكانت سلاما على البشريّة[4]
وممّا قاله الشيخ البشير الإبراهيمي في هذا المجال : "...عروبة الشمال الإفريقي بجميع أجزائه طبيعية كيفما كانت الأصول التي انحدرت منها الدماء والينابيع التي انفجرت منها الأخلاق والخصائص والنواحي التي جاءت منها العادات والتقاليد وهي أثبت أساسا وأقدم عهداً وأصفى عنصراً من إنجليزية الإنجليز وألمانية الألمان ."[5]
وقد حاول المستدمر الفرنسي ولمدّة أكثر من قرن من الزمن العمل على فكّ هذا الترابط وفصم هذا التلاحم ولكن أقصى ما وصل إليه بإثارته النعرات القومية أن توسّع مفهوم العروبة من الدين إلى اللسان فالأمازيغ السكان الأصليين للجزائر والذين يمثلون أكثر من 80% من سكان الجزائر , أصبح من يتكلم بالعربية منهم يسمى عربيا رغم أنّه ليس كذلك (باعتبار الجنس والعرق) ومن حافظ على لسانه فهو أمازيغي
وها هو الأديب المصلح الأستاذ باعزيز بن عمر وهو الأمازيغي الزواوي يقول :"...إنّنا لنشعر من قبل ومن بعد بدم العروبة يجري في عروقنا وهو صافٍ لم يمازجه كدر , وإن اختلف المظهر , ونسمع صوتها الحنين يرن في آذاننا فنفتح له الطرق إلى قلوبنا وأعماقنا , فالعروبة حيّة فينا , ونحن أحياء فيها , ما دامت السماوات والأرض ."[6]
وقد حاول وعمل بعض المفكرين والمثقفين المغاربة على إثارة العروبة بالشكل الذي أثيرت به في المشرق العربي عروبة يراد بها محاربة الإسلام وتهميشه لا غير ولكنّهم لم يستطيعوا ذلك بل بقي التلاحم بين العروبة والإسلام قائما ومتراصا (لم يستطيعوا إنشاء أيّ حزب قومي في الجزائر رغم محاولاتهم العديدة والمتكررة وليس لهم جمعية معروفة بهذا الاتجاه)
وأصل ظاهرة التقاطع بين العروبة والإسلام والتمازج والترابط وفي أضعف الأحوال عدم التصادم بينهما التي عُرفت بها منطقة المغرب العربي منذ أقدم العصور سواء على المستوى العام (الشعبي) أو على المستوى الخاص (المثقفين) ليست أمرا مستحدثا أو بدعا بل هو أصل ما جاء به الإسلام ـ في حسّهم على الأقلّ ـ انطلاقا من اعتقادهم أنّ أوّل من عقد هذا الترابط هو القرآن الكريم دستور الإسلام وكتاب الله عزّ وجلّ بوصفه كتابا عربيا يمثّل أرقى وأسمى ما وصلت إليه العربية كلغة ...وانطلاقا من كون نبيّ الإسلام صلى الله عليه وسلم أصله عربي فهو القائل فيما يروى عنه أنا أفصح من نطق بالضاد وهو القائل فيما يروى عنه كذلك (وأصل الحديث في الصحيح) إن الله اختار العرب واختار كنانة من العرب واختار قريشاً من بني مناف واختار بني هاشم من قريش واختارني من بني هاشم فأنا خيار من خيار من خيار.... وفي حالة الفصل بين العروبة والإسلام فإنّ مقولة عمر هي أهمّ وأعظم ما يصف هذا المقام ويجلي حقيقة هذا الفصام "إنّ العرب كانوا أذلة فأعزّهم الله بالإسلام ولو ابتغوا العزّة في غير الإسلام أذلّهم الله" ...
فالعروبة التي نقصدها ونبحث عنها في شعر أديبنا الإسلامي الجزائري أحمد سحنون هي هذه العروبة التي عرفها المغرب العربي مقترنة بالإسلام خادمة له حاملة للوائه مجابهة للاستدمار القديم والاستغراب الحديث وليست الدين القومي الجديد الذي يراد به مقابلة ومجابهة الإسلام... فهي عنده :
ü عروبة الهوية التي تقابل الفرنسة في مرحلة الاحتلال
ü وعروبة الانتماء والتعايش التي تقابل الفرنكفونية والإقصائية في مرحلة الاستقلال
ü عروبة الحركة الإصلاحية في مرحلة الاحتلال
ü وعروبة الحركة الإسلامية الدعوية في مرحلة الاستقلال
ü عروبة الوطن الجزائري بمحنه القديمة والجديدة
ü عروبة الوطن العربي وقضاياه
ü عروبة اللغة واللسان
ü عروبة الأدب والفكر
ولعل من أبياته التي يظهر فيها الجمع بين أوجه العروبة المتمثلة في الوطن واللغة والدين وفي التاريخ والحاضر والمستقبل قوله في قصيدة (جمعية العلماء أدّت رسالتها)
فيا بني الضاد يا شعب الجزائر يا جند الرسول ارجعوا للضّاد ماضيها[7]
فبنو الضاد المنتسبون للسان العربي هم أنفسهم الشعب المنتسب للجزائر الوطن وهم أنفسهم الجند المنتسب لرسول الإسلام عليه الصلاة والسلام ...يطالبهم الشاعر ها هنا بأن يرجعوا للضّاد ماضيها التليد وتقدمها وتطوّرها العريق ليحيوا به لغتهم ويفكوا أسر وطنهم ...
وأبلغ من ذلك قصيدة (سلمان منا أهل البيت) حيث بيّن فيها بما لا يدع للشكّ مقالا ولا للاحتمال والريب مجالا أنّ اختلاف الجنس لا يمنع من أن ينسب المرء للعروبة بل لأعرق بيت عربي وأكرمه بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اتّصف المرء بالتقوى والتزم منهج الحقّ والهدى فهو يقول فيها :
أعظم شيء به تهنا قول الرسول: سلمان منّا
سلمان من صفوةكرام عاش بدين الإسلام ركنا
موطنه فارس ولكن بموطن الروح كان يعنى[8]
أما العرب كجنس بدون إسلام فهم قبائل متفرقة متشتتة متقاتلة ذات عداوة وإحن ولم يرتقوا لصف العالمية ويؤثروا في الإنسانية إلاّ بفضل الإسلام ولم يفضلوا عن غيرهم إلاّ بانتساب الرسول إليهم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وفي قصيدة (عظمة محمد) يشير إلى هذا المعنى بقوله :
ووحّد العرب أهواء ومعتقدا وكان بعضهم لبعض ذا احن
لتلك معجزة التاريخ كم دهشت أمامها من نهى جلت ومن فطن[9]
حتى العربية نفسها إنّما استقت حسنها وقداستها من قداسة القرآن الكريم وإعجازه تماما كما ذكر في قصيدة (إلى التلميذ)
لغة الضّاد التي ما برحت لغة الإعجاز سميت بكساد[10]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق